
ليلى يوسف الصالح
تلعب الحضارات دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الثقافية للشعوب، وهي ليست مجرد تاريخ محفوظ، بل عنصر فعّال في صناعة السياحة وتعزيز الاقتصاد الوطني. السياح حول العالم باتوا يبحثون عن تجارب ثقافية أصيلة تمكّنهم من الغوص في أعماق التاريخ، واستكشاف عادات وتقاليد الأمم القديمة.
الحضارات كمحرك رئيسي للسياحة الثقافية
بحسب منظمة السياحة العالمية (UNWTO)، فإن أكثر من 40٪ من الرحلات السياحية عالميًا تُصنف تحت “السياحة الثقافية”، والتي تشمل زيارة المواقع الأثرية، المتاحف، المدن التاريخية، والمشاركة في الفعاليات والمهرجانات التراثية. وهذا يؤكد أن السياح لا يسافرون فقط من أجل الترفيه، بل أيضًا لاكتساب معرفة وانطباع أعمق عن الحضارات المختلفة.
فالسائح، أينما كان، قد لا يتحدث لغة البلد الذي يزوره، لكنه يفهم “لغة الحضارة” التي تنطق بها جدران المعابد، ونقوش الصخور، وملامح المدن القديمة. إن في كل أثرٍ قصة، وفي كل حضارة حوارٌ بصريٌّ مفتوح بين الزائر والمكان.
حضارات عالمية
• الحضارة الفرعونية في مصر: لا تزال الأهرامات وأبو الهول في الجيزة تجذب ملايين الزوار سنويًا، حيث سجلت مصر أكثر من 13 مليون سائح في عام 2023، كثير منهم جاءوا خصيصًا لاكتشاف المعالم الفرعونية.
• حضارة المايا في المكسيك: تُعد منطقة “تشيتشن إيتزا” من أكثر المواقع جذبًا في أمريكا اللاتينية، وقد استقبلت أكثر من 2.5 مليون زائر عام 2022.
• الحضارة الرومانية في إيطاليا: الكولوسيوم في روما يُعد من أشهر معالم العالم، ويزوره سنويًا قرابة 7.6 مليون سائح.
الحضارات في المملكة العربية السعودية
تشهد السعودية طفرة في الاهتمام بالحضارات المحلية، مدفوعة برؤية 2030، التي وضعت السياحة والتراث في مقدمة أولوياتها. ومن أبرز المعالم:
• مدائن صالح (الحِجر): أول موقع سعودي يُدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2008، وهي جزء من الحضارة النبطية التي تعود إلى القرن الأول الميلادي. استقبلت المنطقة آلاف الزوار منذ انفتاحها على السياحة العالمية.
• العلا: تحتضن حضارات متعددة مثل مملكة دادان ولحيان، بالإضافة إلى آثار نبطيّة مذهلة. وقد استقبلت أكثر من 250 ألف زائر في عام 2022 فقط، بفضل جهود “الهيئة الملكية لمحافظة العلا” لتطوير السياحة المستدامة.
الرموز الثقافية والتذكارات
الهويات البصرية للحضارات غالبًا ما تتحول إلى رموز سياحية مربحة: مثل تماثيل الفرعون، العملات القديمة، المجوهرات التقليدية، ونقوش الممالك. تُباع هذه التذكارات للسياح في الأسواق والمتاحف، وتُعزز ارتباطهم بالمكان وتزيد من فرص الترويج غير المباشر.
التعليم والتوعية: نحو حفظ التراث
الاهتمام بالحضارات لا يقتصر على التسويق السياحي فقط، بل يشمل برامج تعليمية ومبادرات مجتمعية. العديد من الدول تنظم أيامًا مفتوحة، وورش عمل مخصصة للأطفال والطلاب لتوعيتهم بأهمية التراث، مما يعزز الحس الوطني ويشجع على حماية هذه الكنوز.
السياحة الثقافية كرافد اقتصادي
تشير تقديرات منظمة اليونسكو إلى أن كل دولار يُستثمر في ترميم المواقع التراثية يدر عائدًا يتراوح بين 4 إلى 6 دولارات من خلال السياحة والنشاطات المرتبطة بها. في السعودية وحدها، تهدف الاستراتيجية الوطنية للسياحة إلى جذب 150 مليون زيارة سياحية سنويًا بحلول عام 2030، جزء كبير منها مرتبط بالسياحة الثقافية والتراثية.
الحضارات ليست ماضٍ يُروى فقط، بل حاضرٌ يُعاد اكتشافه ومستقبلٌ تُبنى عليه هوية الأمم. وفي عالم باتت فيه الثقافة تُقرأ بالعين قبل الكلمة، تظل الآثار والحضارات هي اللغة المشتركة التي يفهمها كل سائح، مهما اختلفت لغته أو خلفيته.