
بقلم/ د. وسيلة محمود الحلبي
في الثالث من أيار، لا تموت الذكرى، بل تُبعث فينا من جديد.
هذا اليوم ليس تاريخًا عابرًا في تقويم القلب، بل جرحٌ أنيق، وذكرى موشومة بالحنين، لرجلٍ لم يمرّ في هذه الحياة مرور الكرام… بل ترك فيها أثرًا لا يُمحى.
رحل أبي، لكنه لم يغب.
كيف يغيب من كان حضوره حياة؟
من إذا دخل مجلسًا صمت الجميع، ليس خوفًا، بل هيبةً تُولد من الوقار، ومن ضوء الشخصية الذي لا يُشترى ولا يُصطنع.
كان أبي، محمود بن محمد الحلبي، رجلًا من طرازٍ نادر.
لم يكن عاديًا… بل كان مزيجًا من الرجولة والرحمة، من الحزم والحنان، من الذكاء والفطرة، من الكلمة التي تُبنى عليها الثقة ومن الصمت الذي يعلّمك المعنى دون أن ينطق.
ولد في فلسطين، فحمل ترابها في قلبه كما يُحمل الطفل في الحضن.
مديرًا لمدرسة، ومالكًا لمصنع، وصاحب محطة وقود، كان يزرع النجاح كما يزرع الفلاح سنابله بعَرَق الجبين، ونُبل المقصد وإخلاص لا يعرف الرياء.
ثم جاء التهجير، عام 1948.
نزف الوطن، ونزف معه قلبه لكنه لم ينكسر.
سكن النبطية، ثم دمشق، وهناك… أزهرت غربته بصبره وأعاد بناء نفسه من جديد، كما تبني الجبالُ نفسها بعد العواصف.
في دمشق الشام، كتب فصولًا أخرى من حكايةٍ مدهشة:
في وزارة الصحة، في الريف، في حملات مكافحة السل، ثم في الطبابة الشرعية، حتى تقلد منصبًا رفيعًا في الدولة.
لكن المنصب لم يصنعه، هو من صنع الهيبة التي لا تُشترى بالمناصب.
كان والدي معلّمًا، لا بالكتب فقط بل بالحياة.
كان أبًا ناصحًا، وصديقًا حين تضيق الصدور، وكان زوجًا وفيًا يكتب الحبّ في سلوكٍ يومي، لا في كلامٍ مسكوب.
كان بيته حديقة، وقلبه مضافة وابتسامته موطئ سلام.
كان يزرع الورد والياسمين، لا ليزيّن بها الحديقة، بل ليُشبه نفسه.
وكان يقول: لا تقطفوا وردة، فكل وردة حياة.
كان يحب القهوة كما يحب الأصدقاء، يتقاسمها مع الصباح مع الغروب، مع صمته، ومع الحنين.
وكان يتحدث سبع لغات، لكن أجمل لغاته كانت صمته العميق الذي يُربّي، ونصحه الذي يُنقذ وعربيته التي نحتت في وجداني العز والفخر.
الجميع أحبه.
ليس لأنه طلب الحب، بل لأنه أعطى بصدق، وعاش بكرامة ومضى دون أن ينحني.
أبي لم يكن رجلًا فقط… كان ظاهرةً من الصدق، وسياجًا من المروءة، وشجرة وارفةً من الحنان والعدل.
كان كبيرًا في كل شيء: في عيني، في بيته، في مجتمعه، وفي ذاكرة من عرفوه.
وفي يوم وفاته…
أشعر أن الأرض صمتت لحظة وأن الياسمين حزن، وأن دمشق تنهدت بأسى، لأن رجلاً بهذا القدر لا يُنسى.
رحمك الله يا أبي
ستظل تاجًا على رأسي، وسيرةً تُروى، ومجداً لا يبهت،
وحبًا لا يشيخ.