
-نسرين موسى حسين اليحيى
يرمز مفهوم الحبة الحمراء إلى الاستيقاظ من “الوهم” ورؤية “الحقيقة” كما هي. إلا أن هذا المفهوم الذي بدأ بنزعة للتحرر الفكري والنقد الاجتماعي، انحرف في بعض أوساطه ليصبح مرادفًا لتشكيك مرضي، ولتبرير كراهية منظمة تحت ستار “الوعي” و”الفهم العميق لطبيعة العلاقة بين الجنسين”.
*الكراهية باسم “الوعي”*
على منصة مثل X ( تويتر ) ، تجد بعض الحسابات -غالبًا بلا أسماء أو صور حقيقية- تبني سردياتها على أفكار هذا التيار، فتتخصص في تحليل العلاقات بطريقة تعبوية، حيث المرأة دومًا متهمة، والنية دومًا مشكوك بها، والصورة دومًا مغرضة. يتفنّن أصحاب هذه الحسابات في تقمّص دور “المفكّر الفذ” الذي فكّ شفرة سلوك المرأة المعاصرة، لا ليُصلح العلاقة، بل ليُجهز عليها.
وهنا، يظهر وجه آخر لهذه الظاهرة: جمع صور الفتيات المشاهير، وتكوين أرشيف “مُدان” مُسبقًا. صور من حسابات عامة، من لقاءات تلفزيونية، من أعمال فنية، من لحظات عابرة — تُسلَخ من سياقها، وتُستَخدم كدليل “إدانة” على “سقوط الأخلاق” و”انهيار الحياء”. ثم يبدأ العرض: تغريدات تحمل سخرية، قذفًا صريحًا، إيحاءات جنسية، أحكامًا أخلاقية مطلقة، بل وأحيانًا دعوات مقنّعة للعنف.
*النساء بين صورة وسهام*
ما يُغفله هؤلاء — أو يتغافلون عنه عمدًا — هو أن هؤلاء “المشهورات” اللاتي تُهاجمن هن بشر. لهن عائلات، وشعور، وتجارب، ومعارك شخصية لا يعلمها أحد. الصورة التي تُقتطَع من حياتهن لتُبنى حولها روايات قذرة، لا تعني شيئًا في جوهرها، لكنها في عرف أولئك الرجال تكفي لتجريمهن.
الأنكى أن كثيرًا من هؤلاء الرجال يتحدثون عن “الحفاظ على الأخلاق”، و”حماية المجتمع”، بينما هم يمارسون أقبح ما يمكن أن يُرتكب بحق الآخر: تشويه السمعة، والقذف، والافتراء، ثم العودة للاختباء خلف شاشة وهويّة زائفة.
*من ضحية الواقع إلى جلاد إلكتروني*
ثمة جانب نفسي لا يمكن إغفاله هنا. بعض هؤلاء الرجال ربما عانوا من تجارب عاطفية قاسية، أو خيبات في العلاقات، أو حتى إقصاء من النساء لأسباب مختلفة. لكن بدلاً من مواجهة هذه المشاعر بصدق ونضج، يتم ترحيلها إلى تويتر، في هيئة عداء مفتوح لكل امرأة تعيش بحرية أو تظهر نجاحًا أو تمارس استقلاليتها. يُعاد تدوير الألم الشخصي في هاشتاقات عامة، ويُسكب فوق رؤوس فتيات لا يعرفن حتى من هؤلاء الذين يُهاجمونهن.
*الحبة الحمراء: هل هي حقًا وعي أم كبسولة مرارة؟*
النقاش هنا ليس ضد “الحبة الحمرء” كمفهوم فلسفي أو نقدي؛ بل ضد التوظيف الانتقائي والمسموم لها، حين تتحول إلى أداة لجلد النساء جماعيًا. حين يتم استغلال فكرة “الوعي” لتبرير “الوقاحة”، واستعارة رموز الرفض للتحوّل إلى أدوات تحريض. ليست كل امرأة مشهورة “منحرفة”، وليست كل صورة كاشفة “دعوة للإغواء”، وليس كل رجل ناقد “واعٍ”.
*الإنسانية المهدرة*
نحن لا نعيش في عالم ثنائي من نساء شريرات ورجال طيبين خُدعوا. ولا نملك الحق في تحويل تويتر إلى محكمة أخلاقية دون وجه قانون. الفتيات اللاتي يظهرن في الإعلام أو على وسائل التواصل لسن عدوًا. وكل شخص يستبيح عرضهُنّ هو في الحقيقة لا يمارس “فضحًا”، بل يساهم في بناء مجتمع مشوّه لا يحترم الحدود ولا يقدّر الإنسان إلا بمقدار ما يوافق أهواءه.
العودة إلى الاحترام، والتوقف عن إسقاط الألم على الآخر، والتفرقة بين النقد والتحقير، كلها خطوات عاجلة نحو إنقاذ هذا الفضاء الأزرق من التحول إلى ساحة قتال تُستخدم فيها “الحبة الحمراء” كقنبلة كراهية ..