ثقافة

فضّة ومنيرة

 

بقلم : وضحا الرويلي

فضّة ومنيرة، صديقتان منذ الطفولة. تسكنان في الحيّ ذاته، رغم اختلاف أصلهما وطباع أسرتيهما، وحتى لونهما. كانت منيرة سمراءَ جميلةَ القسمات، بينما فضّة بيضاء البشرة، بملامح هادئة كأنها إحدى أميرات القصص القديمة.

كبرتا معًا، تذهبان إلى المدرسة نفسها، تمضيان الأوقات في اللعب والضحك، وتصنعان من كل يوم حكاية صغيرة، تملؤها البراءة والفرح، كأنّ الدنيا قد خُلقت لهما وحدهما.

في أحد الأيام، وكان الناس حينها يعيشون في ضيق من العيش وقلة ذات اليد، قالت فضّة لصديقتها منيرة، وهي تمسك بيدها بخجل:

– “أشتهي الحلوى، لكنني لا أملك نقودًا.”

نظرت منيرة إليها بحنان وقالت:

– “لا بأس… سأتدبّر الأمر.”

وفي صباح اليوم التالي، وهما في طريقهما إلى المدرسة، أخرجت منيرة من جيبها ورقة نقدية، وناولتها لصديقتها قائلة:

– “خذي هذا، ولنُخْفِه حتى نهاية اليوم الدراسي.”

دهشت فضّة وسألتها:

– “من أين لكِ المال؟ ألم تقولي البارحة أنك لا تملكين شيئًا؟”

فأجابتها منيرة دون تردد:

– “وجدته قبل يومين في الطريق، عندما خرجت لأشتري خبزًا لوالدتي.”

فرحت فضّة، وعانقتها بحرارة. وفي لحظة من الحماس والسرور، قررتا أن تُخبئا المال تحت حجر قرب المسجد المجاور للمدرسة، ليعودا إليه بعد انتهاء اليوم الدراسي، وينطلقا في نزهة صغيرة لشراء الحلوى والعصائر.

وبالفعل، بعد نهاية الدوام، ركضتا نحو المكان المحدد، واستخرجتا المبلغ، وتقاسمتاه بالتساوي، ثم انطلقتا نحو السوق الصغير، تمرحان وتضحكان وتتناولان الحلوى بنهم وسعادة. كانت ضحكاتهما الطفولية تملأ المكان، وتثير البهجة في قلوب المارة.

لكن لحظة عودتهما إلى الحارة، انقلب المشهد كأن الدنيا قد تبدّلت: الجيران متجمّعون، الأطفال يصرخون، الأمهات منهارات بالبكاء، وشباب الحارة يركضون في كل اتجاه. تساءلتا بخوف:

– “ماذا يحدث؟”

وما إن اقتربتا حتى سمعا أحد الشباب يصيح:

– “ها هما الفتاتان!”

اندفع الناس نحوهما، والهمسات ترتفع من كل جانب:

– “أين كانتا؟”

– “من أين لهما المال؟”

– “ما الذي كانتا تفعلانه؟”

وكأن الطفولتين البريئتين تحوّلتا إلى مجرمتين، أُمسكتا بقسوة وسُلّمت كل واحدة إلى أسرتها.

في منزل فضّة، انهالت عليها أمها وأختها وأخوها بالكلمات والضرب، وهي تصرخ باكية:

– “ما الذي فعلته؟ لم أسرق شيئًا!”

لكنهم لم يسمعوا سوى صدى غضبهم وخوفهم:

– “من أين لكِ المال؟ لماذا تأخرتِ؟”

مزّقت والدتها ما تبقّى معها من النقود، وأمرت أختها أن تُعيده إلى أمّ منيرة. فصرخت فضّة:

– “لكنّه مالي!”

فصفعتها أمها وقالت:

– “اسكتي… الله يستر منك.”

أما منيرة، فلم يكن حالها أفضل. والدتها تضربها وتبكي، وأخوها يصرخ فيها:

– “سرقتِ مالنا؟ من حرّضك؟ لماذا؟”

فأجهشت منيرة بالبكاء، وأخفت وجهها بين يديها، عاجزة عن الدفاع عن نفسها.

مرّ ذلك اليوم ثقيلًا كألف عام، وانتهى بليلٍ طويل من التحقيق واللوم والدموع.

وفي اليوم التالي، خرجت الفتاتان من منزليهما، تمشيان بخطى متثاقلة، ووجهيهما يحملان آثار التعب والخذلان. جلسا تحت شجرة قديمة، هي نفسها التي طالما ضحكا تحتها. نظرت فضّة إلى منيرة وسألتها بصوت مكسور:

– “هل ضربوكِ؟”

هزّت منيرة رأسها وقالت والدموع تملأ عينيها:

– “نعم… لكنني اعترفت.”

– “بماذا؟”

– “أنني… لم أجد المال في الطريق. لقد أخذته من محفظة أمي. كنت فقط… لا أتحمل أن أراكِ ترغبين بشيء ولا أستطيع مساعدتك. شعرت أنك أختي، بل أقرب… وفعلتُ ذلك لأجلك.”

لم تحتمل فضّة، ففتحت ذراعيها وعانقتها بشدة، وامتلأت عيون الاثنتين بالدموع.

قالت فضّة بعد لحظة صمت:

– “دعينا نذهب إلى والدتك معًا، ونعتذر. أخطأنا، نعم، لكننا تعلمنا… أن النية الطيبة لا تكفي وحدها، لا بد أن يكون الطريق إلى الخير نظيفًا مثله.”

ثم ابتسمت فجأة وقالت:

– “أتعلمين؟ لا أريد الحلوى… أريد فقط أن نبقى صديقتين للأبد. هذه أحلى هدية.”

خاتمة القصة:

ربما لا يُدرك الكبار دومًا أن قلوب الأطفال تفيض بالنقاء، لكنها تحتاج لمن يُعلّمها أن الخير لا يكون خيرًا إلا حين يُمارَس بطريقة صحيحة.

وهكذا… انتهت الحكاية، لكنّ أثرها سيبقى طويلاً في قلبَيْ فتاتين… اسمهما فضّة ومنيرة.

 

سلمى حسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى