
بقلم: ليلى يوسف الصالح
لم تعد “الفنادق” مجرّد محطات للراحة بعد يوم طويل من التجوّل، بل أصبحت اليوم قلب الرحلة وروح التجربة. في عصر تتداخل فيه الرفاهية مع الثقافة، بات اختيار الفندق جزءًا لا يتجزأ من خطة السفر، إن لم يكن المحرّك الأساسي لها. من فنادق الجليد في الشمال المتجمد، إلى منتجعات الصحراء في عمق الجزيرة العربية، تسافر الأرواح لا بحثًا عن سرير، بل عن ذكرى تُصنع وتُروى.
الفنادق في أرقام
وفقًا لتقرير “Statista” لعام 2024، بلغ حجم سوق الفنادق العالمي أكثر من 446 مليار دولار أمريكي، ويتوقع أن يتجاوز 520 مليارًا بحلول 2026. هذا النمو ليس وليد التوسع السياحي فقط، بل يعكس التحوّل العميق في فهم الناس للسفر، حيث لم يعد الفندق خدمة مرافقة للرحلة، بل أصبح وجهة قائمة بحد ذاتها.
من أول حجرة ضيافة إلى ناطحات سحاب
يعود تاريخ أول فندق معروف في العالم إلى عام 705 ميلادي، وهو فندق Nishiyama Onsen Keiunkan في اليابان، الواقع في محافظة ياماناشي. ما يميّزه أنه لا يزال يعمل حتى اليوم! وقد دخل موسوعة غينيس كأقدم فندق في العالم، تديره نفس العائلة منذ أكثر من 50 جيلًا.
كان الفندق في بدايته نُزلًا بسيطًا للمسافرين الذين يبحثون عن الاستجمام في ينابيع المياه الحارة، وما زال حتى اليوم يحافظ على أجوائه التقليدية، مقدمًا مزيجًا ساحرًا من الضيافة اليابانية العريقة والسكينة الطبيعية.
هذه البداية التاريخية تذكرنا أن الفنادق كانت دومًا أكثر من مأوى… إنها انعكاس لثقافة الإنسان واحتياجاته عبر العصور.
عندما يصبح الفندق هو الوجهة
بدأ كثير من المسافرين يختارون وجهاتهم بناءً على ما يقدّمه الفندق من تجربة فريدة. فمثلاً:
• فندق Marina Bay Sands في سنغافورة، الشهير بمسبحه المعلّق على ارتفاع شاهق، بات رمزًا سياحيًا عالميًا لا تكتمل زيارة سنغافورة بدونه.
• فندق ICEHOTEL في السويد، يُعاد بناؤه كل شتاء من الجليد والثلج، ويوفّر إقامة داخل منحوتات فنية مجمّدة تُدهش الحواس.
• وفي كينيا، يقدّم Giraffe Manor تجربة فريدة حيث تتشارك وجبة الإفطار مع زرافات تُطل برؤوسها من نوافذ الفندق!
تجربة من العُلا: عندما تلتقي الفخامة بالطبيعة
خلال زيارتي لمحافظة العُلا، كانت إقامتي في أحد منتجعاتها البيئية الصحراوية تجربة محفورة في الذاكرة. المنتجع لم يكن مجرد مكان للمبيت، بل كان تحفة معمارية صُمّمت بانسجام مع تضاريس العلا الساحرة. الغرف مبنية من مواد طبيعية، والممرات الرملية تنتهي بشرفات تطل على جبال منحوتة من الزمن. في المساء، وبين سكون الصحراء وصوت الرياح، شعرت أنني لا أزور العُلا… بل أسكن فيها، وأتنفّس تاريخها الممتد آلاف السنين.
أنواع الفنادق السياحية: إقامة حسب النمط والشخصية
مع تنوّع أذواق المسافرين، ظهرت أصناف متعددة من الفنادق لتواكب مختلف الرغبات والأنماط السياحية، ومنها:
• الفنادق الفاخرة (Luxury Hotels): تقدم أرقى درجات الخدمة للباحثين عن رفاهية استثنائية.
• المنتجعات (Resorts): مثالية للعائلات والراحة على الشواطئ أو في الجبال.
• الفنادق البيئية (Eco-Lodges): صديقة للبيئة وتمنح تجربة معيشية متناغمة مع الطبيعة.
• فنادق البوتيك (Boutique Hotels): أصغر حجمًا، لكنها تقدم خدمة شخصية وتصاميم فنية.
• الفنادق التاريخية (Heritage Hotels): تقع في مبانٍ قديمة مجددة، وتمنح الزائر طعم الماضي.
• فنادق الأعمال: موجهة لرجال الأعمال، مزوّدة بخدمات تقنية ومواقع استراتيجية.
• فنادق التجربة (Themed Hotels): مصممة على طراز معين مثل القصص، الفضاء، أو حتى القطارات.
فنادق تحكي التاريخ .. أو تخفيه
بعض الفنادق ليست مجرد أماكن للإقامة، بل شهود صامتة على أحداث صنعت التاريخ، أو بقيت طيّ الغموض. زوار هذه الفنادق لا يبحثون فقط عن الراحة، بل عن أثر الحدث الذي وقع داخل الجدران.
• في فندق “ريتز باريس”، كتبت الكاتبة كوكو شانيل فصلًا من حياتها، وأقام فيه عدد من القادة والكتاب، وكان مقرًا استخباراتيًا خلال الحرب العالمية الثانية.
• أما فندق “Watergate” في واشنطن، فاسمه أصبح رمزًا سياسيًا عالميًا، بعد فضيحة التنصّت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1974.
• وفي فندق “Cecil” بلوس أنجلوس، ارتبطت سمعته بسلسلة من الحوادث الغامضة وجرائم القتل، مما جعله مادة دسمة للوثائقيات والتحقيقات الصحفية.
• وفي فندق “الملك داوود” في القدس، وقعت تفجيرات عام 1946 في واحدة من أكثر الهجمات السياسية شهرة في تاريخ المنطقة.
هذه الفنادق تقدّم أكثر من سرير… إنها أرشيف من القصص الحقيقية، وبعضها لم يُروَ بالكامل بعد.
الفنادق مرآة للثقافة… تجربة تتجاوز الجدران
في كثير من الوجهات العالمية، تلعب الفنادق دورًا جوهريًا في تعريف السائح بثقافة البلد بطريقة حسية وعميقة. فالتصميم المعماري مستوحى من التراث المحلي، والأثاث يروي قصص الحِرَف اليدوية، أما النكهات في وجبة الإفطار فتنقل الضيف إلى قلب المطبخ الشعبي.
تجد في فنادق المغرب بلاط الزليج، والمشربيات الخشبية التي تحاكي العمارة الأندلسية. وفي فنادق اليابان، تجلس على الأرض في غرف “التاتامي”، وتشرب الشاي وفق طقوس تقليدية عمرها مئات السنين. أما في السعودية، وتحديدًا في فندق الكوت بالهفوف، فيعيش الزائر تجربة أصيلة في قلب الأحساء؛ حيث يجمع الفندق بين الطراز النجدي والأحسائي، ويقدّم جلسات عربية تقليدية، وأطباقًا محلية، وممرات مزينة بالنقوش والتمور، مما يمنح الزائر إحساسًا حقيقيًا بالحياة الأحسائية.
وفي فنادق العلا ونجران، تُستخدم خامات محلية مثل الطين والأخشاب، وتُقدّم جلسات “سمر” وسينما صحراوية ومأكولات تقليدية، في مشهد يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
بعض الفنادق تتيح لزوارها المشاركة في أنشطة ثقافية مثل الطهي الشعبي، تعلم الخط العربي، أو ارتداء الأزياء التقليدية، مما يحوّل الإقامة إلى تجربة غنية تنغمس فيها الحواس الخمس.
هذه اللمسات ليست فقط عناصر ديكور، بل جسر ثقافي حقيقي يجعل الزائر يشعر وكأنه جزء من المجتمع، لا مجرد سائح عابر.
فنادق الأرقام القياسية: حيث تُصنع التجربة من العجب
هناك فنادق لم تكتفِ بتقديم الراحة والخدمة، بل دخلت موسوعة “غينيس” لتصبح وجهات سياحية قائمة بذاتها:
• Gevora Hotel (دبي): أطول فندق في العالم بارتفاع 356 مترًا.
• First World Hotel (ماليزيا): أكبر فندق بالعالم بعدد غرف يتجاوز 7,300 غرفة.
• The Muraka (المالديف): أول جناح فندقي تحت الماء.
• Palacio de Sal (بوليفيا): فندق بالكامل من الملح على حافة أكبر صحراء ملحية في العالم.
• برج العرب (دبي): رمز للفخامة المعمارية وخدمة “السبع نجوم” غير الرسمية.
هذه الفنادق تُحوّل الإقامة إلى مغامرة، وتعطي للسائح فرصة أن يعيش ما هو “خارج المألوف”.
السعودية… نجمة فندقية صاعدة
في السنوات الأخيرة، برزت المملكة العربية السعودية كواحدة من أسرع الوجهات نموًا في السياحة الفندقية. مشاريع ضخمة مثل نيوم، أمالا، ومشروع البحر الأحمر تقدم مفاهيم إقامة مستقبلية ممزوجة بثقافة أصيلة. كما أن فنادق العلا وفندق قصر طويق في الرياض، وغيرهما من المشاريع الفندقية التراثية، أصبحت تُشكّل جزءًا من التجربة السياحية المتكاملة التي تسعى المملكة لتقديمها للعالم.
منتجعات البحر الأحمر: رفاهية مستدامة على ضفاف الطبيعة
ضمن مشاريع “شركة البحر الأحمر الدولية”، أُطلقت مؤخرًا مجموعة من المنتجعات البحرية الفاخرة التي تُمثل نقلة نوعية في مفهوم الإقامة السياحية:
• منتجع شيبارة: يقع وسط أرخبيل مرجاني، ويضم 73 وحدة فندقية، منها 38 فيلا عائمة فوق الماء. يتم تشغيله بالطاقة الشمسية، ويتميز بتصميم مستدام وتجربة فاخرة بين الشعاب المرجانية.
• منتجع ثُوَل الخاص: وجهة خاصة بإقامة حصرية، صُمّمت لتقدم أقصى درجات الخصوصية والترف على جزيرة منعزلة.
• منتجع فاينا البحر الأحمر: مشروع فاخر يحتضن 150 فيلا مطلّة على البحر، ويقدم تجربة سياحية متكاملة تجمع بين الضيافة والثقافة والفنون.
هذه المنتجعات تعكس التزام المملكة برؤية 2030 التي تسعى إلى تنمية السياحة المستدامة وتقديم منتج سياحي سعودي منافس عالميًا.
لا يُقاس نجاح الفندق بعدد نجومه فقط، بل بكمّ الذكريات التي يتركها في قلب زائره. وفي زمن تتزاحم فيه الصور والرحلات، تبقى الفنادق التي تُجيد رواية القصة وتصنع تجربة حقيقية، هي الأكثر حضورًا في الذاكرة.
سياحة الفنادق اليوم لا تعني فقط أين تنام، بل كيف تعيش… ومع من تشارك تلك اللحظات.