ثقافة

الجزء الرابع : المعركة الكبرى

التحدي الكبير :

بحث وتحرير : هيا الدوسري
“من اليوم سنحيا حياة جديدة”.. “الملك عبد العزيز”.
في مثل هذه العزلة عن الدنيا والحياة، كان العرب من سكان بادية الجزيرة يعيشون في معقلهم وراء الأسوار ويشهرون السلاح في وجه كل تطور ، ويدفعون البدع العصرية بالسيف. وكانت تلك هى المعركة التى خاضها المغفور له ” الملك عبد العزيز آل سعود” ، ورأها المعركة الكبرى ، وإني لأذكر ما يملأ تاريخ العاهل الراحل من معارك جسام ، كتلك التي استرد فيها ( الرياض ) من خصمه القوي ( ابن رشيد ).
وكان جيش الملك عبد العزيز ، الذى هاجم به معقل العدو واسترد عاصمة نجد ، قلة من الرجال عدتهم أربعون رجلا ، أبقى أكثرهم عند سور البلدة ، وهجم في خمسة عشر رجلا من صحبه ، عامل ابن الرشيد فى حصنه ، وبين جنده وحرسه ، فما انتصف النهار حتى أذن المؤذن : أن الحكم لله ثم لعبد العزيز وأن عجلان – عامل ابن الرشيد – قد قتل .

والمعركة الأخرى التى لقي فيها عبد العزيز ، الشريف حسين ملك الحجاز عام ١٩٢٥ ، فهزم جنده في الطائف ثم دخل مكة ظافراً دون حرب ، وبعدها دخل المدينة ثم جدة آخر معقل للأشراف .
“يقول الملك عبدالعزيز ( أذكر هذه المعركة وتلك ، ومثلهما رغم أهميتهما التاريخية ، لكنها ليست كمثل حركة تحضير البادية فسميتها ( المعركة الكبرى ) ، لأن الملك عبد العزيز كان فيها يلقى إخوانه وعشيرته ، وحلفائه و رعاياه ، وما أشق النضال حين يكون ضد أخ وحليف ! إنه يقف الآن وجهاً لوجه أمام «الإخوان » النجديين ، الذين انتصر على أعدائه ، والذين قالوا له عندما تردد في قتال الأشراف : « يا للعجب ! أليسوا محاربين لنا ” ؟
أليس كبيرهم يحول بيننا وبين أداء فريضة الحج ؟ فما بال ابن سعود يأمرنا بالكف عنهم ؟ وما له وما لنا ؟ إننا نقوم بفريضة الجهاد ، فمن عاش رجع ومن مات لقي ربه شهيداً وهو عنه راض .
وهم الذين اندفعوا نحو الحجاز مستبسلين ، فما زالوا يحاربون حتى هزموا جنود الملك حسين هزيمة حاسمة .
والآن وقد دانت الجزيرة للملك عبد العزيز ، يخوض معركته الجديدة أمام «الإخوان» وهم جنده وأنصاره وعشيرته.

ومثل هذه المعركة لا تعرف المواقف الحاسمة ، وإنما أدوار تتعاقب ونضال يتجدد كلما بدأ ( لعاهل الجزيرة أن ينتفع بأحد المخترعات الجديدة ، أو يعترف بما استحدث من أجهزة وآلات ) .
وقد ظل العاهل فترة طويلة ، متردداً بين رغبته في الإصلاح ومسايرته للإخوان ، وصابرهم أمداً وهم يتمادون في إنكار كل إصلاح ، فيسايرهم حيناً ، ويحاول إقناعهم بالحجة حيناً آخر ، كاظماً غضبه .
وأراد جلالته أن يمد “سلكاً برقياً” بين مكة ومعسكره في (جده) ، والمسافة بينهما تُقطع في ثماني ساعات ذهاباً وإياباً على ظهور الخيل والإبل السريعة ، لكنه اضطر إلى أن يؤجل المشروع ، کیلا يهیج ثائرة (الإخوان) الذين كانوا يقطعون أسلاك البرق لأنه “منكر ” تجب إزالته .
ثم عمد إلى ملاينتهم ومحاولة إقناعهم بالحجة ، فدعا زعماءهم إلى مؤتمر بالرياض فى يناير ١٩٢٧ م ، فاستخلص من علماء نجد الفتوى المشهورة :
( أما مسألة ” البرقي” فهو أمر حادث في آخر الزمان هذا ، ولا نعلم حقيقته ولا رأينا فيه كلاماً لأحد من أهل العلم ، فتوقفنا فى مسألته ، ولا نقول على الله ورسوله بغير علم ، والجزم بالإباحة أو التحريم يحتاج إلى الوقوف على حقيقته ).

-الثورة ضد الإصلاح
لقد تمادت ( جماعة الإخوان) فى ثورتهم على الإصلاح ، إلى حد دفع “الملك عبد العزيز” إلى اصطناع الحزم معهم . حدَّث جلالته : أن المشايخ حضروا عنده لما علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكية فى الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد . فقالوا له : يا طويل العمر ، لقد غشك من أشار عليك باستعمال ( التلغراف )، وإدخاله إلى بلادنا ، وإن “فلبي” ( فلبي سانت جون ضابط سياسي أوفده الأنجليز للملك عبد العزيز عام ١٩١٧ ) سيجر علينا المصائب .

فقال لهم الملك عبد العزيز : لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد ولست ولله الحمد بضعيف العقل أو قصير النظر لأخدع . . وما ”فلبي“ إلا تاجر وكان وسيطاً في هذه الصفقة .. إخوانى المشايخ : أنتم الآن فوق رأسي تماسكوا بعضكم ببعض ، لا تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم ، وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية ، مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد لظهور فائدتهما لي ولبلادي ، وليس هنالك من دليل أو سنة يمنع من إحداث اللاسلكي والسيارات »
غير أن هذا لم يحسم النزاع ، « فلقد نال بعضهم الإمامة بموالاة الكفار والتساهل في الدين ، وأنكروا عليه تطويل الثوب والشارب ولبس العقال إلى غير ذلك من ضروب الجهالة ، وأصبحوا يحرَّمون كل ما لا يتفق وهواهم ، حتى كادت تقع فتنة أهلية بين الإخوان من جهة ، والحكومة والحضر من جهة أخرى ، فجرد الملك عبد العزيز كتيبة من طلبة العلم المتفقهين في دينهم، وأرسلهم إلى ( الإخوان ) كي يصلحوا ما أفسده الجامدون ، و بلغ الأمر مداه وعيل صبر الملك ، فأرسل جنده في مستهل عام ۱۹۳۰ لتأديب العصاة الذين طغوا وعاثوا فساداً باسم الدفاع عن الدين ، وجيء بزعيم العصاة ( الدويش )، بعد معركة ( أم الرضمة ) في سيارة إلى خيمة الملك ، فكانت اللعنات من أتباعه الأسرى تصب عليه بسبب ركوبه السيارة !
وكان مما قاله الأسير يومئذ : يعلم الله يا عبد العزيز أنك لم تقصر معنا ، وقد فعلت كل ما يبيض وجهك ، وقابلنا معروفك بالإساءة . لقد فررنا من وجهك إلى الكفار ، فحملونا إليك في طيارة من طياراتهم ، ويكفي ما أشعر به من الهوان والصغار أمام “الإخوان ” بعدما كنت عزيزاً محترماً ).
ولقد عد بعض الكتاب ، معركة ( أم الرضمة )، وما تلاه من استسلام الدويش للملك عبد العزيز من المعارك الفاصلة بين الفوضى والنظام ، كما عدوا نصر الملك فيها على الإخوان ، نصراً للتقدم على الرجعية . وأصغت الجزيرة كلها إلى كلمة ملكها بعد النصر ..
“من اليوم سنحيا حياة جديدة »
يتبع >>>

شعبان توكل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى