مقالات وشعر

التحدي الكبير : الجزء الخامس

اقتباس وتحرير : هيا الدوسري
لكن الواقع أن تحضير البادية لم يكن ليتم باستسلام الثوَّار المتمردين وإنما هو الصراع المستمر الذي يتجدد مع كل ” بدعة ” من مستحدثات العلم ، وقد يهدأ فترة ليعود بعد حين أعنف وأحدُّ ضراما ً .
والذى حدث بعد هزيمة المتمردين أن حركة التعمير والإصلاح سارت بطيئة فى وجه مقاومة قوية من الأعراف والتقاليد ، والعادات ، والتشبث بموروث الأوضاع ، والتعصب لعزلة الجزيرة ولقد أعلن الملك عبد العزيز بدء «الحياة الجديدة » فى يناير ۱۹۳۰ ، ومع ذلك ظلت البادية تنظر فى ريبة وحذر إلى كل حركة من حركات التحضر .
وتحاول أن تدفع منكرات ( البدع باللسان أو القلب ، بعد أن أعجزها دفعها باليد )
وبدا كأن الصحراء فى حاجة إلى معجزة جديدة ، تضع حداً لهذه الحرب الخفية المستمرة ضد العلم ، وتمكن لعاهل الجزيرة من تنفيذ رغبته فى إصلاح حاسم النتائج ، بدلاً من هذه الخطوات البطيئة الحذرة المضادة المهددة بهجوم من ( الرجعية ) يعيدها القهقرى مجهدة مقهورة .
هل قلت إن المعركة كانت ضد المستحدثات من بدع الأجهزة والآلات ؟ إنى إذن لم أقل كل الحق ، فالواقع أن الصراع كان أعمق من هذا وأوسع مجالاً ، وقد تجاوز البدع المخترعة إلى أسلوب العيش ومواد التعليم ونفذ إلى الصميم ، في كل كبيرة أو صغيرة من حياة الجزيرة . .
وقد ذكرت ، كيف ( نال بعضُهم الإمامة بموالاة الكفار والتساهل فى الدين ، وأنكروا عليه تطويل الثوب والشارب ولبس العقال ! ولنا أن نتصور مدى ما كان يحتاج إليه المصلح من جهد وجلد ووقت ، لكي يتغلب ..
على قوم ضجوا لأن المدارس تريد أن تفتن التلاميذ عن العلم ، وما العلم الحق في رأيهم إلا التفسير والحديث والفقه وعلم العربية والتاريخ الإسلامى . وكان من مظاهر هذه الضجة ، أن اجتمع علماء الدين من النجديين عام ۱۹۳۰ ، وتشاوروا فى الأمر ، ثم أصدروا قراراً يحتجون فيه على إدارة المعارف في مكة لأنها قررت فى برنامج التعليم : الرسم ، واللغة الأجنبية ، والجغرافية )
ولم ير جلالة الملك عبد العزيز من الحكمة أن يمضى في سبيله غير مكترث لضجة العلماء ، بل بعث رسولا إلى «كبار المشايخ » الأمر في شأن هذه المسائل التي طلبوا إلغاءها من برامج التعليم . ليجلو لهم الأمر ويبحث معهم في شأن هذه المسائل التي طلبوا إلغاءها من برامج التعليم .
وقال قائلهم : « لقد بينا للإمام عبد العزيز الأدلة والمفاسد التي تترتب على تقرير هذه العلوم : أما الرسم فهو التصوير وهو محرم قطعاً ؛ وأما اللغات فإنها ذريعة للوقوف على عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة ، وفى ذلك ما فيه من الخطر على عقائدنا وعلى أخلاق أبنائنا ؛ وأما الجغرافية ففيها كروية الأرض و دورانها ، والكلام على النجوم والكواكب ، مما أخذ به علماء اليونان وأنكره علماء السلف ..
لقد كان علماء نجد يحرمون دروس المنطق والفلسفة ، وينكرون على بعض المتعلمين قراءة الصحف السيارة ويرون المثل الأعلى للعلماء أن يصرفوا أعمارهم في الرد على “مخالفيهم من الطوائف”
ومن ثم ، أرادوا “لإمامهم عبد العزيز” أن يشغل بالدفاع عن مذهب الوهابيين ، والجهاد في سبيل نقاء العقيدة الإسلامية من شوائب أهل البدع ، وحماية الجزيرة من كل عنصر دخيل .
هكذا مضت الأعوام ، والحجاز – في طرف الجزيرة
مقصد الحجاج من شتى بقاع الأرض ، ومهوى أفئدة المسلمين فى كل مكان ، والجزيرة من ورائه تناضل عن عزلتها ما استطاعت ، وتقاوم الجديد ما وجدت إلى المقاومة سبيلا ..
ولم يكن أحد يتوقع أنه سيجيء يوم يدوي فيه اسمها فيسمع له رنين أقوى من رنين الذهب ، وتنكشف الفلاة الموحشة المهجورة عن كنز ثمين مطمور تحت الحصا والرمال …

وجهاً لوجه في قلب الصحراء !
“علم الإنسان مالم يعلم “.

. كانوا أشبه بفريق من المغامرين ، نزحوا من العالم الجديد في مستهل الثلث الثانى من القرن العشرين، ونصبوا خيامهم بين “النهدين وظهران الجنوب” على حافة الربع الخالي هناك .. حيث لا ظل ولا ماء ، وإنما هو المهمة القفر يمتد عن يمين وشمال ، ومن الأمام والخلف ، رهيباً ، ماحلا ، موحشاً ، تتلوى خيوط الرمال فوق أديمه كأنها الثعابين ، وتعوي الريح على أعالى قممه وكثبانه، فتجاوبها من السفوح والقيعان شتي الأصداء كأنها عزيف الجان ..
نصبوا خيامهم هناك منبوذين بالعراء ، حيث الضوء الساطع من شمس الظهيرة يعشى الأبصار ، والظلمة الحالكة في ليل الفلاة تخلع الأفئدة . قد هجروا الأهل والولد، ونبذوا ترف الدنيا ..
الجديدة وراء ظهورهم فى سبيل الكشف عن منابع للبترول قد تكون مطمورة فى بقعة ما من هذه الفلاة الموحشة .
وكان رواد آخرون قد سبقوهم إلى هناك ، في شتاء عام ۱۹۳۰ ، ونقبوا عن الزيت فى الشمال الغربي من الجزيرة ثم مضوا عن الصحراء يائسين بعد أن أذابوا في رمالها الملتهبة أكداساً من المال ، مختلطة بالعرق المتصبب والجهد الضائع . فجاء هؤلاء على أثرهم يستأنفون التجربة الخاسرة بأمل جديد
وكانت منطقة ( الأحساء ) وجهتهم هذه المرة ، فشقوا إليها ما يقرب من ألف ميل عبر الصحراء القاحلة ، موفدين من قبل ( شركة ستاندرد أويل كومباني أوف كاليفورينا ) وهى الشركة الوحيدة التى قبلت أن تتبنى هذه المغامرة ، وأن تدفع ثمنها الباهظ ، في سبيل «كنز» مجهول
وفى اليوم الثالث من سبتمبر عام ١٩٣٣ ، وصل مدير الشركة إلى ( الظهران) بعد توقيع اتفاقية الزيت مع مندوبي الحكومة السعودية ، وجاء معه بالآلات والرجال لمباشرة التنقيب، التمهيدي وبدأ الحفر فعلاً في آخر أبريل ١٩٣٥ م.
عكفوا على تلك الرمال القاسية والصخور الجرداء ، ينقبون ويبحثون ، بين قيظ يشوي اللحم ويصهر العظم ، وزمهرير ..
يجمد الدم ويثلج البدن ، منقطعين عن الدنيا بعيدين عن العمران ، يحيط بهم الخراب الموحش من كل جانب ،
خمس سنوات قضاها المنقبون عن الكنز في مجاهل الجزيرة يحفرون البئر بعد البئر ، وينتقلون من قفر إلى قفر ، والصحراء ..
ضنينة بسرها ، مناضلة عنه ، لا تقدم لضيوفها الغرباء إلا القيظ والزمهرير ، والصخور والرمال ، والوحشة والملال . لكن الباحثين عن البترول ، كانوا يدركون أن عدوهم الألد هو اليأس ..
وأبى عليهم إصرارهم العنيد ، أن يستسلموا للهزيمة بعد فشل التجربة الأولى ، والثانية ، والثالثة ، والرابعة ، والخامسة وأكبوا من جديد على الرمال الكاوية ، يحفرون البئرين السادسة والسابعة وكانت معركة ، تلاقى فيها جبروت العلم مع جبروت الصحراء ، فتم النصر للعلم ..

يتبع >>>

شعبان توكل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى