مقالات وشعر

( بين جيلين )

بقلم /. د..هنيدة بنت نزيه قدوري
خبيرة استشارات تربوية وتعليمية وأسريةHnoo-yaaa@hotmail.com

بيت العائلة يعد المصدر الأول والرئيسي لسلوك الفرد وأفكاره ونظرته لنفسه، فنتعجب الآن لما يحدث في بعض البيوت خلف أبواب الغرف المغلقة، هناك صمت لا يُحكى، ونظرات تحمل تساؤلات لا تُقال، بين آباء يتمنون الفهم، وأبناء يبحثون عن الاحتواء فتتكون فجوة تتسع بصمت، حتى تصير غربة داخل البيت الواحد،

وتنشأ هذه الفجوة بين الآباء والأبناء التي تعرف “بالفجوة بين الأجيال”، نتيجة الاختلافات الثقافية والفكرية والاجتماعية، والتي تعكس الفروقات في طريقة التفكير وأساليب التعبير والآراء، والقيم، والاتجاهات، والتصوُّرات العامة عن الحياة، والعلاقات بين الجيلَين، إذ إنّ كلّ جيل نشأ في ظروف معينة، حيث يرى الأب أن التجربة هي المعلم الأول، بينما الابن لا يسمح له بخوض التجربة لكي يتعلم ويظل معتمدًا على الأب وتجاربه، والأم التي تفرض سيطرتها على أبنائها، وترغب بوضع قواعد صارمة وتُلزم الابنة باتباعها والتجاوب معها، رغم أنّها قد تتعارض مع رغباتها أحيانًا، وتُهدد استقلاليتها التي تُحاول بنائها وإثباتها، وهذا التضارب، إن لم يُفهم، يتحول إلى صدام، ثم إلى جفاء.
وهناك العديد من الأسباب التي صنعت تلك الفجوة منها:
* التطور التكنولوجي السريع فيعيش الأبناء في عالم رقمي متسارع وهذه السرعة تخلق لغة جديدة ومفاهيم مختلفة يصعب على الجيل الأكبر استيعابها.
* الاختلاف في أساليب التربية حيث يستخدم معظم الآباء أسلوب التوجيه المباشر والسلطة، بينما يبحث الأبناء عن الحوار وفهم احتياجاتهم ومتطلباتهم العمرية، وهنا يبدأ الصراع بين “افعل كما أقول” و”اشرح لي لماذا أفعل”.
* الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تؤدي أحيانًا إلى ضعف التواصل وغياب الحوار وشعور الأبناء بالإهمال العاطفي؛ لانشغال الوالدين في توفير الحياة الكريمة لهم.
* تأثير الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حيث يتعرض الأبناء لمحتوى يومي يصنع مفاهيم مختلفة عن العائلة، الحب، والنجاح، مما يجعلهم يرون الحياة بعين تختلف عن آبائهم.
ويمكن معالجة تلك الفجوة قبل اتساعها من خلال:
1.الاعتراف بالاختلاف وتقبّله فالقبول هو أول خطوات الفهم فمن الطبيعي أن يختلف الجيل الجديد عن القديم، لكن غير الطبيعي أن نرفض هذا الاختلاف.
2. الاستماع والإصغاء المطمئن واستخدام التواصل البصري الفعال ولغة الجسد التي تدل على الاهتمام بدلًا من إصدار الأحكام؛ للحد من الوصول للعلاقة التجنبية القائمة على اللوم، فلا يحتاج الأبناء دائمًا إلى نصيحة أو توجيه، أحيانًا يحتاجون فقط لمن يسمعهم دون أن يُحاكمهم، وكذلك الآباء في حاجة استماع الأبناء لهم وتقديرهم وتلبية احتياجاتهم والاحساس بهم.
3. فتح مساحات للحوار الأسري الهادف وطرح أسئلة مفتوحة تشجع على التعبير وتقبل وجهات النظر المختلفة؛ للحد من الوصول للعلاقة المتناقضة غير الآمنة (يوم معي ويوم ضدي) وذلك بتخصيص وقت يومي أو أسبوعي للحديث دون توتر أو انتقاد، مما يساعد على بناء جسر تواصل آمن بين الطرفين.
4. الحب غير المشروط وذلك بتكوين علاقة آمنة قائمة على القيم، والثقة والأمان والاحتواء والدعم وعلى الأبناء أن يقابلوا هذا الحب بعطاء واحترام وامتنان.
5. التعلّم المشترك ومُمارسة الأنشطة والهوايات المُمتعة سويًا واستخدام طرق التواصل الحديثة والكتابة عبر التطبيقات المُختلفة لأبنائهم كأصدقاء لمنحهم فرصة للتعبير بأريحيّة.

فالفجوة بين جيلين ليست معركة بين “صح” و”خطأ”، بل هي مسافة يمكن أن نختصرها بالتقبل، كما أنها ليست نهاية العلاقة، بل هي بداية فرصة للفهم بوعي وعمق أكبر بأن الأم أو الأب ليس خصمًا، والابنة أو الابن ليس متمرّدًا، هم أرواح وُلِدت في أزمنة مختلفة، لكن يمكن لقلوبهم أن تتلاقى في منتصف الطريق ويسيروا معًا للتقدم والرقي.

مريم المقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى