مقالات وشعر

جروح الطفولة

 

بقلم / د. هنيدة بنت نزيه قدوري

خبيرة استشارات تربوية وتعليمية وأسرية

يقال “المجروح من أهله لا يشفى أبدًا” استوقفتني هذه المقولة في المشاكل والصدمات التي يتعرض لها الأفراد في طفولتهم وتؤدي إلى جروح وترسبات سيئة تنعكس على حياتهم المستقبلية، فجروح الطفولة ليست دائمًا مرتبطة بصدمات كبيرة كالإيذاء الجسدي أو التحرش أو الفقد أو غياب أحد الوالدين العاطفي رغم وجوده الجسدي أو مقارنة مستمرة بإخوته وأقاربه، بل قد تكون أيضًا نتيجة لكلمات جارحة، تجاهل مشاعر الطفل بأنه غير محبوب، غير كافٍ، أو أنه يجب أن يستحق الحب بالأداء والكمال فقط.

فجروح الطفولة حين تُترك دون وعي أو علاج، تنمو مع الفرد وتؤثر على علاقته بنفسه أولًا ثم علاقته بالآخرين فنجد أن هناك الكثير من الأفراد الذين يعانون من مشاعر غير مفهومة، كالغضب المبالغ فيه، أو الخوف غير المبرر، أو الشعور بالدونية أو الانعزال والانغلاق والوحدة أو صعوبة التواصل مع الآخرين أو عدم الثقة بالنفس، وغيرها من المشاعر المتقلبة وغير المستقرة، وعند التعمق قليلًا في تاريخهم الشخصي، نجد أن جذور هذه المشاعر تمتد إلى الطفولة، وتسببت في جروح لم تُعالج، بل طُمِرت في عمق الذاكرة، فهناك مثلًا من يحمل جرح “الرفض” فقد يعيش حياته في محاولة دائمة لإرضاء الآخرين، أو العكس فينعزل خوفًا من تكرار الرفض، وهناك من يحمل جرح “الخذلان” فقد يجد صعوبة في الوثوق بالناس، ويعيش في حالة ترقب دائم لخيبة جديدة، وأما من يحمل جرح “التنمر والمقارنة” فقد يفقد ثقته في نفسه ويميل إلى الانطواء أو العدوانية ؛ لإحساسه بالإهانة والإذلال والفشل والضغط النفسي.

ونجد أن تأثير جروح الطفولة لا تتوقف عند الفرد، بل تنتقل إلى الأسرة، فالشخص المجروح دون أن يشعر قد يُسقط آلامه القديمة على شريكه أو أطفاله فيتكرر نمط الأذى، وتُعاد نفس الجروح في جيل جديد ولكن بأشكال مختلفة، فالأم التي لم تشعر يومًا بالأمان في طفولتها قد تصبح أمًا مفرطة في الحماية، فتخنق أبنائها بدافع الحب ، والأب الذي كان يتعرض للضرب والعنف وسوء المعاملة في طفولته قد ينقل نفس القسوة لأطفاله وبيئته المحيطة، والزوج الذي عاش في بيئة لا تسمح له بالتعبير عن مشاعره فسوف ينقل برود المشاعر إلى زوجته، وكذلك الزوجة التي تعرضت لكثرة الانتقاد من أهلها فسوف تكرر هذا الأسلوب مع زوجها ومع من حولها.

فكلنا نحمل شيئًا من الماضي، لكن لا أحد مجبر أن يظل رهينة له، فالشفاء ليس نسيانًا، بل فهم، وتقبل، ونية واعية ألا نُورّث الألم ولنُوقف حلقة الجرح عندنا، ولنكن الجيل الذي يبدأ بالتعافي من خلال الوعي ومعرفة أن ما نشعر به اليوم ليس دائمًا نتيجة ما يحدث الآن، بل قد يكون ظلًا لماضٍ لم نواجهه، كما يجب علينا تحليل الموقف الطفولي وفهم تفاصيل الحدث (الإساءة، الإهمال، الفقد، الخوف…) وتأثيره على السلوكيات الحالية والمشاعر المصاحبة له مثل ( القلق، الغضب، الانغلاق، ضعف الثقة، أو غيرها ) والاعتراف بالألم وعدم إنكاره والسماح لأنفسنا بالشعور به، وإخراجه من الظل إلى النور، لنفهمه، ونتجاوزه دون أن نغرق فيه، باستخدام الكتابة ، أو التحدث أو الرسم أو اللعب للتعبير عن المشاعر المكبوتة، وتخفيف التوتر المتراكم المرتبط بالموقف من خلال التأمل وممارسة تقنيات الاسترخاء والتنفس والرياضة ، بالإضافة إلى استشارة مختصين للمساعدة في إعادة التواصل مع الطفل الداخلي ومحاولة شفاء جروحه، وتقديم الدعم لبناء الهوية الجديدة وتطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية والتشجيع على تكوين علاقات صحية إيجابية؛ لتجاوز أثر العلاقات غير الآمنة والتجارب المؤلمة في الطفولة؛ للعيش بسلام في الحياة.

سلمى حسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى