
د. وسيلة محمود الحلبي
في لحظة أدبية فارقة، لا تشبه سواها، استضاف بيت الشربتلي بجدة مساء الأربعاء 14 مايو 2025م أمسية شعرية استثنائية بكل المقاييس، جمعت بين عبق التاريخ، وبهاء الحرف، وروعة المكان، ودفء التفاعل. وامتزجت الأرواح مع القصيدة، والأذهان مع الصوت، والذاكرة مع الجمال، في مشهدية ثقافية يندر أن تتكرر، تجلّت خلالها الشاعرة دلال كمال راضي بموهبتها المتفرّدة، وهي تسكب على المنصة شيئًا من روحها، وتخط بأنفاسها ملامح مساء خالد في تاريخ الحركة الأدبية بجدة.
الأمسية التي نُظمت ضمن برنامج “الشريك الأدبي” في نسخته الرابعة، جاءت تحت عنوان: “عناق الحرف واللون في ديوان على ضريح قاتلي”، واحتضنها بيت الشربتلي بجدة التاريخية، ذلك المعلم المعماري والثقافي الفريد الذي بات منبرًا للأدب، وذاكرةً حية لكل من مرّ ذات يوم من أروقة الشعر.
دلال… بين الحضور والاحتراق
منذ اللحظة الأولى لصعودها على المنصة، استطاعت دلال أن تسرق الأضواء، لا بمظهرها، بل بجوهرها، إذ كانت القصائد تنبع من داخلها وكأنها تُحكى لا تُلقى، تُتنفّس لا تُقرأ، تتفتّح كزهور مجنونة في بساتين لغوية لم يسبق لها مثيل. وبديوانها الشعري الذي حمل عنوان “على ضريح قاتلي”، أعادت تشكيل مفهوم الحب والفقد والحنين، بأسلوب شاعري مزيج من الرهافة والجرأة، السكينة والانفجار، التأمل والبوح.
القصائد، التي ألقتها بصوتها العذب المتزن، تنقّلت بين حالات وجدانية متباينة، رسمت خلالها لوحة شعرية كثيفة التفاصيل، كثيفة المعنى، تأخذ المتلقي نحو ضفاف الروح دون أن تتركه يعود كما كان. ومن قصيدة إلى أخرى، بدا الجمهور مأخوذًا، مندهشًا، كأن الحضور شهدوا بعثًا حقيقيًا للحرف الأنثوي، في أبهى تجلياته.
حضور ثقافي رفيع ومشاركة نخبوية لافتة
وقد تميزت الأمسية بحضور لافت لكوكبة من رموز الإعلام والثقافة والأدب والفن، جاء في مقدمتهم المستشار الإعلامي والشاعر أحمد عبدالغني الثقفي، الذي عبّر عن سعادته بهذه التجربة قائلاً:
“دلال لم تكن تقرأ نصًا، بل كانت تستدعي نجمًا من فضاء الحرف، تُعيد ترتيب الذائقة من جديد، وتكتب الجمال بصوتٍ نقيّ نادر الوجود. إن الأمسية لا تُختتم، بل تُؤرّخ، لأنها كانت تجربة شعرية مكتملة النضج، موصولة الوجدان، أصابت الوجع والجمال معًا دون أن تختلّ موسيقاها لحظة واحدة.”
كما حضر الأمسية عدد من الصحفيين البارزين، والفنانين التشكيليين، وروّاد السرد والمسرح، إلى جانب نُخبة من المثقفين والمهتمين بالحركة الشعرية الحديثة، مما أضفى على اللقاء بُعدًا فكريًا وثقافيًا تجاوز حدود القصيدة، ليصنع حوارًا متعدد الأصوات حول اللغة والهوية والأنثى والوطن.
بيت الشربتلي… حين يحتضن المعنى
بيت الشربتلي، بما له من رمزية تراثية عميقة، بدا كأنه الشريك الثالث في الأمسية. جدرانه، أبوابه، نوافذه، كلّها كانت تهمس بالحكايات، وكأنها تحفظ أرواح من سبقوا، وتنتظر مجيء مَن يستحقون. في كل زاوية، وفي كل ركن، كان هناك معنى، وفي كل بقعة ضوء كان الشعر يتوالد كما تتوالد الحياة من رحم الألم.
وقد تم تنظيم الأمسية بإتقان عالٍ، من حيث الصوتيات، الإضاءة، ترتيب الضيوف، وتوفير مساحة حوار مفتوحة بعد انتهاء القراءة الشعرية، ما أتاح فرصة للمهتمين والمختصين بمناقشة النص، وتقديم قراءات نقدية حيّة أعادت تسليط الضوء على معاني دلال وفلسفتها في بناء الصورة الشعرية المعاصرة.
في نهاية اللقاء… توقيع وامتنان
واختُتمت الأمسية بتوقيع الشاعرة على نسخ من ديوانها الجديد، وسط طوابير من العشّاق والقرّاء الذين انتظروا دورهم لنيل توقيع الشاعرة وعبارة شخصية منها، في مشهدٍ يعكس الأثر الكبير الذي تركته في نفوس الحاضرين. وقد بادرت دلال بشكر الجميع، وأهدت هذا النجاح لروح والدتها، التي كما قالت: “كانت أول من علّمني أن الحرف أمانة، وأن الشفاه لا تقول إلا ما يُشبه السماء”.
إشادة واسعة في وسائل الإعلام والمنصات الثقافية
وقد وجدت الأمسية صداها سريعًا في الأوساط الثقافية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تناقلت الحسابات الثقافية الكبرى مشاهد وصورًا من الأمسية، مشيدة بالأداء المتقن والذائقة العالية في التنظيم، معتبرةً هذه الأمسية نموذجًا راقيًا لما يجب أن تكون عليه الفعالية الأدبية: حاضرة بالفكرة، طازجة بالمحتوى، ومؤثرة بالرسالة.
ختامًا، فإن أمسية دلال كمال راضي في بيت الشربتلي ليست مجرد فعالية مرت، بل لحظة مفصلية في ذاكرة الشعر بجدة، ستبقى عالقة كأغنية لا تغادر الأذن، وكقصيدة لم تنته بعد.