
بقلم: عبدالرحمن المزيني
كاتب صحفي، مذيع تلفزيوني.
يُقال كثيرًا: “فسد الزمان”. عبارة تُطلق بارتياح كما لو أن الزمن كائن مستقل اختار أن يفسد فجأة، ونسينا أن الزمان ليس سوى مرآة لنا. هو لا يفسد وحده، بل يفسده البشر، أو يتطهّر بهم.
لكن دعنا نكن منصفين: ما الذي تغيّر حقًا؟ منذ فجر التاريخ والبشر يتأرجحون بين الخير والشر، بين الحماقة والتعقّل، بين الخوف والشجاعة. لم يكن هناك زمن بلا أخطاء، ولا مدينة فاضلة، ولا جيل بلا سقطة. التفاوت هو في وعي الناس بهذه التقلبات، لا في طبيعتها.
الصراع بين النور والظلمة ليس مؤامرة كونية، بل قانون كوني. كل واحد منّا يعيش هذا الصراع داخله قبل أن يراه في العالم من حوله. ليست الحياة سباقًا للصالحين، بل مسرحًا دائمًا للتحول. من ظنّ أنه ثابت، فقد بدأ بالجمود. ومن فهم أن التغيير ليس ضعفًا، بل شجاعة، فقد اقترب من جوهر الحياة.
نحن نخطئ حين نحكم على إنسان من لحظة. لحظة ضعف، لحظة سقوط، لحظة صمت. الإنسان مشروع طويل النفس، فصوله متباينة، وبعضها يُكتَب بالدموع لا بالحبر. كم من شخص استيقظ بعد سنوات من الضياع، وكم من “صالح” غرق في الغرور حتى فقد نفسه. لا أحد محصّن، ولا أحد مرفوض للأبد. العبرة بالخواتيم، نعم، ولكن لا أحد يعرف متى تكون الخاتمة.
والقلوب بين اصبع الرحمن يقلبها حيث يشاء، اللهم ثبت قلوبنا،
فالعبرة بالخواتيم، فلايغتر الإنسان بعمله، فدخول الجنة برحمة الله، والعمل سبب، والأصل رحمة الله.
فلنترك في حياتنا مساحات للتفاؤل، ونحسن الظن دائما بالاخرين،
ويقال العاقبة افضل من السابقة، وان السابقة في الأزل هي التي تحدد العاقبة في الدنيا،
لذا يجب ان لانعير أحد من الناس في سلوك ربما يتوب منه قبل موته، فتكون الخاتمة طيبة.
فكلّنا مذنبون ومقصرون بحق الله، فلنقف أمامه خاشعين بجوارحنا ولسان حالنا يقول: يا رب ليس لنا أحد سواك.
من الجانب النفسي، نحن ميّالون للحكم السريع لأن التقييم يريحنا. يمنحنا شعورًا مؤقتًا بالتفوق، أو الأمان. لكن هذا التقييم غالبًا ما يكون انعكاسًا لمخاوفنا، لا لحقيقة الآخر.
أما اجتماعيًا، فنحن نعيش في بيئة تستهلك الناس كما تستهلك الأخبار. تُعلّق عليهم، تراقبهم، وتنسى أن كل إنسان يحتاج إلى فرصة ليُعيد تقديم نفسه. لا أحد يولد ناضجًا، ولا أحد يُدرّب على الخطيئة ثم يتوب عنها بلا صراع داخلي حارق.
أما دينيًا، فكل رسالة إيمانية حقيقية قامت على هذا المبدأ: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.” التغيير ليس فقط ممكنًا، بل مطلوب. لا بصفته نتيجة، بل بصفته نضالًا. وكأن الإيمان، في جوهره، هو الرغبة في ألا نظل كما نحن.
كلنا في صراع، كلنا في ارتحال. فمن الحكمة ألا نحاصر أحدًا في لحظة من حياته، وألا نحصر سيرته في مشهد واحد. فكما لا يجوز أن نغتر بصالحٍ قبل أن يُختبر ثباته، لا ينبغي أن نقنط من فاسدٍ قد تتبدل روحه في هدوء الليل دون أن نعلم.
في النهاية، الإنسان ليس صورة ثابتة نضعها في إطار ونعلّقها على الجدار، بل هو سردية متطورة، قابلة للمحو، والتعديل، والعودة إلى البداية.
العاقبة… هي البرهان الوحيد على صدق النية، وعمق النضج، وجمال الرحلة.
ولعل أجمل ما يمكن أن نفعله لبعضنا في هذا العالم المرتبك هو أن نمنح الآخرين فرصة لنهايات جديدة.