
بقلم: د. عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
زحام الحياة وتكدّس المشاغل لا يُلغي أن العلاقات الإنسانية من أهم ما يُشكّل ملامح وجودنا. ليست رفاهيةً عابرة، ولا مجرّد تواصل اجتماعي، بل احتياجٌ فطريّ يتجذّر في وجدان الإنسان منذ لحظة ولادته. إلا أن الفارق كبير بين العلاقات التي تبني، وتلك التي تهدم بصمتٍ لا يُرى.
الحياة لا تُقاس بطول السنين، بل بعمق الروابط وصدقها. فكل علاقة حقيقية تُشبه الماء الصافي: لا لون لها ولا رائحة، لكنها تمنح الحياة. أما العلاقات المسمومة، فظاهرها ناعم، وباطنها مُنهك للنفس. تكمن خطورتها في تراكم الجراح دون صوت، حتى يُصبح الألم عادة، والتأقلم تنازلًا، والصمت استسلامًا.
العلاقة السليمة لا تقوم على العاطفة وحدها، بل على احترامٍ متبادل، وتقديرٍ صادق، وصدقٍ غير جارح، ونيةٍ طيبة، وحدودٍ واضحة. فإذا اختلّ أحد هذه الأعمدة، تمايل البناء، وإذا انهار اثنان منها، سقط كل شيء.
يُخطئ من يظن أن التسامح يلزمه بالبقاء في علاقة تُهينه، أو أن الصبر يفرض عليه احتمال من يُضعفه. فالمحبة لا تُلغي الكرامة، بل تُثبتها. والانسحاب من علاقة مؤذية ليس هروبًا، بل وعيٌ وشجاعة.
ولكي تحيا بسلام داخلي، لا بد أن تُحسن اختيار من تُنصت له، تمامًا كما تُحسن اختيار ما تتناوله من طعام. لا تُجبر نفسك على تحمّل من يُثقل قلبك، وتذكّر: ليس من البرّ أن تُؤذي نفسك لترضي الآخرين.
وفي هذا السياق، أُسلّط الضوء على ما أُسميه “المجموعة الصفراوية”. هم أولئك الذين لا يظهرون بعداءٍ مباشر، بل يتسلّلون في هيئة ودّ، ويتقنون فنّ التلوّن. لا يُضيفون شيئًا، لكنهم يُشوّشون كل شيء. وجودهم شبيهٌ بالأصفار على يسار الأرقام: لا يُغيّرون المعادلة، لكنهم يُفسدون صورتها.
هم الريح الصفراء… لا تُرى، لكنها تُخرّب كل استقرار. ينتقدون أكثر مما يقدّرون، ويسخرون حين يُمتدَح غيرهم، ويختفون عند الحاجة، ويظهرون فقط حين تتعثّر. يُجيدون التلميح لا المواجهة، ويمارسون دور الضحية، بينما يؤدّون في الحقيقة دور الجلّاد، بسيفٍ مغطّى بمنديل الودّ.
لا تمنحهم مساحة من وقتك أو تفكيرك، ولا تجعلهم جزءًا من يومك أو قرارك. فهم مجرد أصفار… ومكانهم الطبيعي: على الهامش.
كن لطيفًا، لكن لا تكن ساذجًا. وازن بين الإحسان للناس، والإحسان إلى نفسك. حافظ على صفاء قلبك، لكن لا تُراهِن عليه في بيئةٍ امتلأت بالأقنعة.
فالعلاقات كالنوافذ… منها ما يُطلّ بك على النور، ومنها ما لا يُفتح إلا على العتمة.
“ليسوا أعداءً ظاهرين… بل سُمٌّ ناعم في قوالب بشر.”
نبذة عن الكاتب
د. عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
أكاديمي سعودي، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعاقة السمعية، وعضو مؤسس وفاعل في عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية. كاتب صحفي وباحث في قضايا العلاقات الإنسانية والعمل التطوعي والتنمية المجتمعية.