
بقلم: عبد الرحمن المزيني
كاتب صحفي، مذيع تلفزيوني
لسنا في زمن العجائب، نحن في زمن الضياع المعرفي، والتخبّط العلمي، والانقلاب السريع في المفاهيم!
تتصفح الصحف صباحًا، فتجد خبرًا يوصي بالقهوة للحفاظ على صحة القلب. وفي المساء، قناة فضائية طبية تحذّر من القهوة وتحذر من تأثيرها على الأعصاب! وبالتالي عدم تناولها!!
دواء أُجيز من هيئة الغذاء والدواء، ثم بعد أشهر يُسحب ويُعلن أنه سبب أمراض قاتلة!
حديث نبوي يتناقله الخطباء والوعاظ، ثم يأتيك من يقول: لا يصح، لم يثبت، والأسانيد فيها نظر!
فأيُّ عقولٍ نمتلك، وأيُّ ثقة نُبقي؟
وأين البوصلة في هذا البحر المتلاطم من التناقضات؟
بين التناقض والتخبط
لا أقول إن العلم خائن، ولا أدّعي أن الحداثة كاذبة.
لكن دعونا نُفرّق بين “العلم الحقيقي” و”الإعلام المتلوّن”، بين البحث المنهجي والتسويق التجاري، بين الإجتهاد الصادق والمصالح المريبة
نُعاني اليوم من انفجار معلوماتي، وإنفلات معرفي!
كل من امتلك منصة، صار يُصدر فتوى طبية أو شرعية أو إجتماعية.
وتحت هذا الضجيج، يغيب الصوت الرصين، صوت العالم الذي يقول: “لا أعلم”، وصوت الطبيب الذي يقول: “نحتاج الى المزيد من الوقت”.
نُساق بين دراسات متضاربة:
• هذا يوصينا بثلاثة أكواب شاي في اليوم! لتعديل الضغط!
• وذاك ينهانا عن الشاي نهياً قاطعًا!
• منظمة تُجيز دواء، وبعد عام تعتذر وتسحبه!
من نُصدّق؟
وهل نحن أمام “معلومة تتطور” أم أمام “خداع يُسوّق”؟
هي دعوة إلى التيقظ لا إلى الإستسلام.
لا نُريد أن نشكك بالعلم، ولا أن نُغلق عقولنا!
لكن لا نُريد أيضًا أن نكون أتباعًا لكل صيحة، ولا أن ننقاد كالعميان خلف كل دراسة أو رأي!
علينا أن نُعيد بناء أدواتنا في الفهم ، أن نُفرّق بين العلم الرصين، والرأي العابر،
وأن نفهم أن بعض الأشياء قد تكون مفيدة في وقت، ضارة في وقت آخر، بحسب السياق، الجسد، العمر، والظرف.
بل حتى في الدين، لا بُدّ من فقه أعمق. لا بُد من معرفة أصول الرواية، وفهم علل التضعيف والتصحيح، لا أن نُصدّق كل تغريدة تُشكّك، أو نرفض كل صوت يدعو للمراجعة.
نحن لسنا ضد المعلومة، نحن ضد تسويقها بشكل يُراد منه التحكم، لا التنوير
لسنا ضد التجديد، لكننا نرفض أن نُعامل كقطعان.
والحيرة التي نعيشها، ليست عيبًا فينا، بل في طريقة إدارة المعرفة وتوجيهها.
أدعو كل قارئ، كل مثقف، كل رب أسرة، وكل شاب وشابة يبحث عن الحقيقة:
لا تكن هشًا، ولا تكن متصلبًا.
كن متزنًا. اقرأ، اسأل، ناقش، واحتفظ بحقك في الشك… لكن لا تَكفُر بالعلم ولا تَبتلع الوهم.
نريد عقلًا ناقدًا، لا عقلًا تابعًا.
في عالم يفيض بالمعلومة، ويشح فيه اليقين، صرنا نُطوّق بالتساؤلات أكثر مما نُزَوّد بالإجابات.
تتبدّل الحقائق كما تتبدّل المواسم، وتتقلب الآراء كما تتقلب الرياح. بالأمس، كانت القهوة تُصنّف في قوائم الخطر، واليوم هي ترياق للقلب ومُطيل لعمر الشرايين. الشاي كذلك، والدواء الذي طُرِح بالأمس في الأسواق، يُسحب اليوم بتهمة التسبب في امراض.
بل حتى في الحديث النبوي، تُعاد قراءة الروايات، ويُشكك البعض في الأسانيد، فيُقال لنا إن ما كان يُتداول بين الألسن لعقود، لم يثبت.
فماذا نفعل؟
هل نُسلّم أنفسنا للعلم ونخضع لتقلباته؟ أم نمسك بالعقل ونفتش بين السطور عن معنى ثابت؟ أم نعيش في المنطقة الرمادية، بين الشك واليقين، نتأرجح بين الرأي ونقيضه؟
مشهد التناقض وتفسيراته
ليست المشكلة في التناقض ذاته، بل في طريقة تعاطينا معه.
فلنأخذ مثالاً بسيطاً: القهوة.
أثبتت دراسة في تسعينيات القرن الماضي أنها ترفع ضغط الدم وتُرهق القلب. ثم ظهرت دراسات جديدة، أُجريت على عيّنات أكبر وبتقنيات أحدث، قالت إن القهوة تحتوي على مضادات أكسدة مفيدة، وتقلل من خطر الجلطات.
من نُصدّق؟ الاثنين؟ أم لا أحد؟
وهكذا، كلما تطور العلم، تطورت نتائجه. كلما اتسعت أدوات الرصد، اتسعت زاوية النظر.
فالذي قيل قبل عشر سنوات، كان صحيحاً في ضوء ما كان متاحاً آنذاك. لكنه قد يُصبح خاطئاً إذا جاءت حقائق أوسع وأعمق.
وهنا مربط الفرس: العلم ليس ديناً، بل هو مشروع تصحيح مستمر.
أما نحن، فمشكلتنا أننا نُعامله كأنه عقيدة، لا يجوز أن يتبدل أو يتغير.
وهذا خطأ فادح.
عقل القارئ بين المطرقة والسندان!
المشكلة لا تتوقف عند التناقض العلمي. بل تمتد إلى كل مساحات الحياة.
الإعلام يُغذّي هذا التشويش، والسياسة تستثمر فيه، والتسويق التجاري يُضخّمه ليبيعنا الخوف تارة، والحلّ تارة أخرى.
في ظل هذا الضجيج، يُصبح الإنسان رهينة لتيارات متضاربة.
فإما أن يُصبح عبداً لكل خبر جديد، يركض وراء كل دراسة، ويُبدّل نمط حياته كل أسبوع.
وإما أن يُصاب بالشلل، فيرفض كل شيء، ويرى أن لا حقيقة في هذا العالم.
لكن ثمة خيار ثالث…
هو أن نُدرّب أنفسنا على الشك المنهجي، لا الشك العدمي.
أن نُمسك بالعقل، لا بالمزاج.
أن نُدرك أن لكل دراسة سياق، ولكل رأي بيئة وظروف.
من التناقض إلى التوازن
التناقضات لن تختفي.
المطلوب منا ليس أن نلغي التناقض، بل أن نفهمه، وأن نُدرّب وعينا على غربلة المعلومات، لا ابتلاعها.
في زمن ما بعد الحقيقة، لم يعد السؤال: “ما هو الصواب؟”، بل: “كيف نعرف الصواب، حين تتزاحم حوله الروايات؟”.
والإجابة تبدأ من هنا: ألا نُصدّق كل شيء، ولا نُكذّب كل شيء! بل نُفكّر،نتامل، نعمل العقل، ثم نُصدّق بوعي، أو نُكذّب بعلم.
للتواصل مع الكاتب:al.mozine1436@gmail.com