
عبد العزيز عطية العنزي
في زوايا المدينة الصاخبة، حيث تتداخل أصوات الباعة المتجولين مع ضجيج السيارات الفارهة، كانت ريم تخطو خطواتها المثقلة باليأس. لم تكن تتجاوز العشرين ربيعًا، لكن عيناها كانتا تحملان حكايات أقدم من عمرها بكثير. بين ذراعيها، كانت تحتضن طفلتها الصغيرة، زهرة لم تتفتح أوراقها بعد، لكنها كانت النور الوحيد الذي تبدد عتمة أيام ريم.
كل صباح، كانت ريم تستيقظ على قسوة الواقع، لا سقف يحميها سوى السماء، ولا فراش يريح جسدها المتعب سوى أرصفة الشوارع. كانت تبدأ رحلتها اليومية بحثًا عن كسرة خبز تسد بها جوعها وجوع طفلتها. كانت تتنقل بين الأسواق والمقاهي، تحملق بعيون زائغة في وجوه المارة، علها تجد نظرة عطف أو يدًا تمتد بالمساعدة.
لم تكن ريم متسولة بالفطرة، كانت تحمل في قلبها أحلامًا وردية كأي فتاة في عمرها. تمنت أن تكون طبيبة تعالج المرضى، أو معلمة تنير دروب الصغار. لكن الحياة رسمت لها مسارًا آخر، مسارًا مليئًا بالعثرات والوحدة.
ابنتها الصغيرة كانت عزاءها الوحيد في هذا العالم القاسي. كانت تراقبها وهي تلعب بأصابعها الصغيرة، وتصدر أصواتًا بريئة تنسيها للحظات مرارة واقعها. كانت قوة الأمومة تمنحها إصرارًا عجيبًا على الاستمرار، على البحث عن بصيص أمل في نهاية النفق المظلم.
في إحدى الأمسيات الباردة، بينما كانت ريم تحتضن طفلتها بحثًا عن دفء، اقتربت منها امرأة عجوز تحمل ملامح طيبة. نظرت العجوز إلى ريم وطفلتها بعينين دامعتين، ثم جلست بجانبهما. لم تتحدث كثيرًا، لكنها أخرجت بعض النقود من حقيبتها المتواضعة وقدمتها لريم بابتسامة حنونة.
كانت تلك اللحظة بمثابة طوق نجاة لريم. لم تكن النقود هي الأهم، بل كانت نظرة العطف والاهتمام التي شعرت بها بعد فترة طويلة من التجاهل. شعرت بأن هناك من يراها، من يعترف بوجودها وبمعاناتها.
بتلك النقود القليلة، تمكنت ريم من شراء بعض الطعام لطفلتها وحجز غرفة متواضعة في فندق شعبي ليوم واحد. كان ذلك اليوم بمثابة حلم قصير، شعرت فيه بالدفء والأمان للمرة الأولى منذ زمن طويل.
لكن الحلم سرعان ما تبدد مع شروق الشمس. عادت ريم وطفلتها إلى الشارع، لكن شيئًا ما تغير في داخلها. نظرة العجوز الطيبة منحتها جرعة من الأمل، وأيقظت فيها إيمانًا بأن الغد قد يحمل معه شيئًا أفضل.
استمرت ريم في كفاحها اليومي، لكنها لم تعد تشعر بالوحدة كما كانت من قبل. كانت تحمل في قلبها ذكرى تلك اللحظة الإنسانية، وكانت طفلتها تمنحها القوة للمضي قدمًا. كانت تعلم أن الحياة قاسية، لكنها كانت مصممة على ألا تستسلم، من أجل عيون صغيرتها التي تستحق حياة أفضل. كانت قصة ريم مجرد واحدة من آلاف القصص الصامتة التي ترويها شوارع المدينة، قصص عن الصمود والأمل في وجه أقسى الظروف.